عن المجلة

مجلة مغربية مخضرمة في مواجهة تحديات التغيير  

كل مجلة علمية تنشأ إنما هي حياة ناشئة وحيث إن الذين يقفون على نشأتها ليسوا سوى كائنات من الكائنات العابرات، فلا يكفي أن يقولوا للشيء كن ليكون، فلا علم لهم بما سيكون من مصير تلك المجلة، هل تتوقف بعد الأعداد الأولى أم تمتد في الزمان.

ولعل هذا ما كان من شأن هسبريس-تمودا، فإن كبار الحكام الفرنسيين في عهد الحماية ممن أشرفوا مباشرة على إنشائها وزودوها باللازم من الوسائل المادية يتصرف بها فريق من العلماء يقوم كل واحد منهم مقام القطب في مجال تخصصه، فكانت الطلائع كلها تشير بطول النفس وإن كانت أسباب التعثر والانقطاع غير خفية عن العيان،

ذلك بأن المجلة ارتبطت ارتباطا وثيقا بأغراض نظام الحماية، حيث كان الهدف من إنشائها كشف الستار عن خبايا المجتمع المغربي المحمي، فلا سلطان على بلد دون الاطلاع عَلى أسراره وأول من قام بهذا العمل: “البعثة العلمية الفرنسية” التي انتظمت صفوفها لهذا الغرض منذ 1904

وظلت تنشر نتائج تحرياتها في دورية اسمها: ا”لأرشيفات المغربية“ وذلك إلى سنة 1936، ثم في دورية تحت عنوان: ”الأرشيفات البربرية“ التي لم يصدر منها سوى بضعة أعداد. وبعد أن صار المشروع الاستعماري إلى الاستقرار غداة انتصار الدولة الفرنسية في الحرب العالمية الأولى، بدت الحاجة ماسة سنة 1921 إلى إنشاء مجلة علمية جديدة تتضافر فيها الجهود لسبر أغوار المغرب. ووقع الاختيار بطبيعة حال الاستعمار الفرنسي على اسم هسبريس فهو اسم المغرب القديم عند الإغريق

ففي هذه الأرض النابضة بالحياة الزاهية بالماء والخضرة، جرت عَلى العملاق هيراقليس الأسطوري بعض مغامراته. ومعنى هسبريس بالإغريقية الغروب والغرب، واللفظ ترجمة للفظ المغرب بالعربية. واختيار حكام الحماية له ينم عما كان من تهوسهم بعزل المغرب عن جذوره العربية الإسلامية لربطه بأشد ما يكون من الوثاق بالمجال الأوربي

وما أن صدرت الأعداد الأولى حتى تبين أن المجلة مكتوب لها الاستمرار، ذلك بأن البحث العلمي الصرف تغلَّبَ فيها على المقاولة الاستعمارية. وما كان علماء من طينة ليڤي-بروڤنسال أو جورج كولان أو إميل لاوست، ليزيغوا عن جادة الحقيقة، هذا فضلا عن كون المجلة رأت النور في ظرفية مؤاتية، فإنها استجابت لحاجة ثقافية مزدوجة؛ فمن جهة السلطات الحامية، كان الوقت قد حان لتجاوز أهداف التجسس السطحي للخوض في الأبحاث المعمقة، ومن جهة النخبة المغربية، بات من الضروري مساءلة النفس بالانفتاح على المدرسة العصرية. ففي تلك اللحظة انكب المؤرخون من أمثال عبد الرحمان بن زيدان وعباس بن إبراهيم التعارجي ومحمد داوود على تحبير مؤلفاتهم الكبرى

وامتدت أعداد هسبريس تتوالى حافلة بالأبحاث العلمية الرصينة عن أحوال المغرب الاجتماعية قديما وحديثا، وعن أحوال محيطه المغاربي والأندلسي. وهذا التوجه العلمي هو الذي جعلها أبعد مدى مما كان مكتوبا للمشروع الاستعماري من مدى الزمان. فأضحت بما كان لها من الدوي واجهة من واجهات المغرب في القرن العشرين. وصار من مسؤولية كلية الآداب والعلوم الإنسانية ضمن جامعة محمد الخامس المحدثة سنة 1957 غداة الاستقلال، أن تسهر على مواصلة نشرها، فتشكل فريق من الباحثين جديد سرعان ما تصدر فيه الباحثون المغاربة. وما أن تمت الوحدة الترابية بالجمع بين المنطقة السلطانية والمنطقة الخليفية، حتى انصهرت مجلة هسبريس التي أنشأها الفرنسيون في الرباط بمجلة تامودا التي أنشأها الإسبان في تطوان، فبات اسمها هسبريس- تمودا، و “تامودا” مدينة أمازيغية قديمة أطلالها تبدو جنوب شرقي تطوان

وكان رائد هذه المرحلة وهذه الخطوة المجددة زميلنا المأسوف عليه جرمان عياش. وما كان أحد يومئذ ليتقدم عليه لمواصلة نشر المجلة والمحافظة على مستواها العلمي الراقي، فإنه كان من المقاومين للاستعمار، وقد أدبته سلطات الحماية على نضاله وعلى كفاحه. وكان ممن يستطيع المزاوجة بين الإخلاص للأصول الوطنية والانفتاح على الآفاق الطلائعية، ذلك بأنه كان، هو المبرز من الجامعة الفرنسية، يهوديا مغربيا معتزا بثقافته الأمازيغية العربية، فانتقل بالمجلة بإصرار ونكران ذات موفقا، من عهد الحماية إلى عهد السيادة الوطنية المسترجعة

ويوم لبى داعي ربه سنة 1990، قام مقامه فريق آخر كان لي فيه شرف التنسيق بين الباحثين الذين تحملوا المشعل، فنحن جيل حاملي هذه التركة الثنائية. إننا ورثة مدرسة تاريخية نابعة من الجذور المغربية ومن الثقافة الأندلسية، فنحن حفدة ابن أبي زرع وأبي القاسم الزياني، مثلما أننا حفدة أبي عبيد البكري ولسان الدين ابن الخطيب. ولكننا أيضا تلامذة ممنونين لأساتذتنا الفرنسيين والإسبان الذين علمونا مناهج البحث العلمي العصري وأدخلونا معهم في تركتهم العلمية الضخمة المتراكمة لديهم منذ عهد هيرودوت، والتي ماتزال تفتح الدروب أمام البحث العلمي

ولقد سعينا في الإخلاص لهذا الإرث المزدوج بأن سهرنا على أن تبقى المجلة أداة للتعريف بالأبحاث المغربية في العلوم الاجتماعية، وأرضية يلتقي فيها الباحثون الأجانب المهتمون بقضايانا. ويمكن النشر فيها باللغات العربية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية. وفي ذلك ضمانة إضافية للحفاظ على ما تمتاز به من المستويات العليا في التحرير والصرامة المنهجية، فلا يزال الباحثون يترقبون صدورها عبر المعمور.

وقد أقدمت كلية الآداب على إعادة نشر ما سبق من الأعداد منذ البداية. ومثل من في حوزته تلك الأعداد كلها كمثل من تحت يده موسوعة تزوده بمعطيات ملموسة دقيقة عن كل ما يتصل بالمغرب خاصة وبالغرب الاسلامي بوجه أعم من حيث التاريخ والجغرافية والسوسيولوجية واللسانيات

ولا بد لمن يتصفح تلك الصفحات أن يستفيد منها كل ما يخص المغرب من حيث الكليات والجزئيات. وتتجلى منها تلك الصورة التي كان الملك الحسن الثاني يصور بها المغرب بأنه شجرة جذورها في إفريقيا وفروعها ممتدة في أوربا منذ أقدم العصور ومرتبطة بالشرق قبل الإسلام وبعده بالأحرى. وما مجلة هسبريس-تمودا سوى تشخيص ملموس لهذه الصورة التي تميط الستار عن الماضي وتفتح الآفاق على المستقبل، فيكون من اللواحق حتما ما تمليه السوابق. وهل كانت صفحة الحماية إلا عاصفة غطى مرورها السريع على ما تميزت به من العنف. بيد أنها جددت انطلاقة البلاد بما تعلمنا من خلالها من ضرورة النقد الذاتي، فما هسبريس-تامودا سوى مرآة تعكس هذا الانبعاث. ولذلك يتواصل نشرها وصدورها حتى صارت نوعا من مؤسسات الوطن المرعية. ومن خلال إصدار هذا العدد الخاص بمناسبة الذكرى الخمسين لإنشائها تود كلية الآداب والعلوم الانسانية إبراز قيمة هذه المؤسسة

إبراهيم بوطالب، هسبريس-تمودا، المجلد. عدد فريد 2007 ، 11-13

بمناسبة الذكرى الخمسين لإنشاء كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط